البنيان أم الإنسان ؟

 

ما دمرته الحرب في اليمن من معمار مادي يمكن أن يعاد بناؤه: الطرق والجسور والمباني والهيئات والمؤسسات وغيرها يمكن إعادة بنائها، وتضاريس الأرض التي غيرتها آلة الحرب ستأتي السيول عليها لتعيدها إلى وضعها الطبيعي، والألغام-على الرغم من كلفتها البشرية-يمكن كذلك نزعها، وأما الأرض فستغسل الأمطار وجهها الحزين.

المهمة الأصعب هي إعادة بناء ما دمرته الحرب في روح الإنسان ووجدانه، في عقله وضميره، في ثقافته وقيمه. المهمة الأهم هي غسل روح الإنسان اليمني من مخلفات الحروب التي فجرتها المليشيات، ومسح غبار المعارك من عقله، وإعادة هندسة بنيته النفسية والعاطفية.

المهمة الأقدس هي الاعتناء بالإنسان، الذي اهتزت ثقته بنفسه وقيمه ومجتمعه وبكل من حوله، الإنسان الذي ولدت لديه رؤى وأفكار تغذي في نفسه اليأس من مستقبله، والشك في ماضيه، والعبث بحاضره، مما يراكم لديه الإحباط والانهيار الروحي والنفسي، الأمر الذي يولد ظواهر مجتمعية غير مسبوقة، وتهتكاً في النسيج الاجتماعي تصعب إعادة رتقه.

لقد كان اليمنيون قاب قوسين أو أدنى من إنجاز عملية تحول سلمي تاريخي بعد مؤتمر الحوار الوطني الذي انتهى مع نهاية العام 2013، ثم جاء الحوثيون بانقلابهم في صنعاء، مؤسسين لسنوات من الحرب والتمزق الاجتماعي، وملشنة حياة الناس، وكل ما ترتب على انقلاب 21 سبتمبر 2014 من نتائج كارثية على اليمن واليمنيين.

ومع كل ذلك فإن الحرب، والحاجة والفقر، والوصول إلى حافة المجاعة، وانهيار النظم التربوية والصحية، وتهديد الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، كل ذلك ربما كان أخف نتائج الانقلاب المشؤوم في صنعاء، إذا ما قارنا الخراب المادي الحاصل بالخراب الروحي والاجتماعي الذي ضرب مجتمعنا جراء حروب المليشيات في بلادنا.

إن مواجهة تلك النتائج الكارثية للحرب تتطلب استنفاراً شعبياً ورسمياً، دينياً وثقافياً، تربوياً وتعليمياً، سياسياً وأكاديمياً، لوضع الخطط اللازمة للتعافي الاجتماعي والروحي لليمنيين، ضمن عملية طويلة، تتطلب إمكانات هائلة، ومدى زمنياً كافياً، لكي نعيد للإنسان روحه التي شوهت معالمها الحروب والصراعات.

وهنا تجدر الإشارة إلى المحاولة التي كانت أيام الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي رحمه الله، والتي تمثلت في العمل على توحيد المناهج الدراسية، لدمج اليمنيين-بمختلف توجهاتهم الدينية والمذهبية-ضمن ثقافة اجتماعية قائمة على التعايش، على أسس مبادئ ثورة 26 سبتمبر، ونظامها الجمهوري.

وعلى الرغم من عدم إعطاء هذه السياسة حقها من الاهتمام في تاريخنا المعاصر، إلا أن آثارها الاجتماعية تمثلت في خروج جيل من اليمنيين ذابت لديه الفروق المذهبية، إلا ما بقي في جزر منعزلة لدى بعض التيارات السلالية-الإمامية، وبعض الجماعات المتطرفة-التكفيرية.

لقد كان لسياسة توحيد المناهج التعليمية أثر بالغ في تجاوز الفوارق المذهبية والاجتماعية التي تمخضت عنها قرون من حكم الأئمة القائم على نظريات الاصطفاء الديني والتميز السلالي، غير أن التيارات الإمامية استطاعت-خلال عقود من عمر الجمهورية-الكمون في مفاصل الدولة والمجتمع اليمني، وتمكنت من الحفاظ على موروثها الطائفي، إلى أن واتتها الفرصة مع تراخي قبضة الدولة على بعض مناطقها، حيث تمكن الحوثيون من الخروج من عباءة المحاضن الطائفية التي كانت تمثل جزراً معزولة، استطاعت فيما بعد القضاء على موروث الحمدي في تذويب الفوارق المذهبية والمجتمعية، الأمر الذي أدى إلى ضرب النسيج الاجتماعي، وغيره من تداعيات تمرد الحوثيين الذي بدأ في محافظة صعدة عام 2004.

وأخيراً، يمكن القول إنه كما تخلص اليمن من الفروق المذهبية والاجتماعية التي كرسها نظام الأئمة، فإننا اليوم بحاجة ماسة إلى استراتيجية مماثلة لتلك التي نفذت في سبعينيات القرن الماضي،  لتجاوز ما أحدثه ورثة الأئمة اليوم من دمار مذهبي واجتماعي نتج عن سياساتهم الطائفية وحروبهم العبثية التي مزقت النسيج الاجتماعي لدى اليمنيين.


*نقلاً عن صحيفة 26 سبتمبر