ثُلاثية الاتزان السياسي.. عند الأزمات!

في ظروف سياسية كهذه التي تمر بها اليمن، نحتاج إلى كثير من سياسة الاتزان في التعامل مع الأحداث بتداعياتها المتسارعة والضخمة، والتي أدخلت البلد في خيار الاحتراب.
اليمن صارت دائرة ساخنة بما تخوضه من حرب مزدوجة - أهلية وخارجية- وبما تواجهه من ضغوطات محلية وإقليمة، وهي المعضلة السياسية التي اختلطت فيها أوراق إقليمية وشعبية وحزبية وطائفية، وتحركها بواعث انتقامية من الداخل، ودواعي أمنية ذات بعد إقليمي من جهة أخرى.
والإشكالية المعقدة أن النزاع السياسي حول السلطة وتقاسمها صار خافتا وغائبا، بينما ارتفع صوت السيادة الوطنية والسياسية في الواجهة بعد سقوط صنعاء.. وتسلم زمامه الحلف الثنائي بين المؤتمر والحوثيين في تبادل الأدوار لفرض الأمر الواقع.. في حالة مقلقة نقلت اليمن إلى مربع الاحتراب..
وهذا مما لم يساعد على استتباب الوضع السياسي بسلطة حاكمة تتحمل مسؤولياتها القانونية. رغم أن حزب المؤتمر بدى مؤخرا يدفع بكل ثقله نحو استعادة الدولة من خلال تصدره في تأسيس مجلس سياسي، وعقد مجلس النواب، وتشكيل الحكومة.. لكنها تمشي في حقول مليئة بألغام زرعها حليفه المذهبي، ومحاطة بأسلاك إقليمية شائكة..
وعلى المستوى السياسي الخارجي استطاع مندوب الأمم المتحدة أن يحرك عمليات المفاوضات والمحادثات السياسية.. لكنها بدت تجارب مشلولة ومخيبة للآمال الشعبية.
هذه الصورة التقريبية لمعضلة الأزمة اليمنية، وهي التي جعلت التعاطي السياسي يعاني من صعوبات في تحديد المواقف وابداء الآراء، إذ تتطلب تفكيك المتناقضات وفرزها، ومراعاة ظروف الداخل والخارج على سواء، وتمييز كل الأوراق السياسية على الطاولة.
كما أن انعدام الأرضية التي تنطلق منها مسؤولية المحادثات لم تسمح باستقرار تسوية سياسية مقبولة..! 
كل هذا يتطلب سياسة الاتزان، والنظر بعين واسعة على محيط الأحداث بتعدد أطرافها.. بما تنعكس عليه التصورات السياسية إيجابا.
وما يمكن أن نناقشه في سياسة الاتزان هي ثلاث نقاط رئيسة: 
1- اتزان القرار/
الاتجاهات السياسية غالبا ما تنأى بنفسها من الانزلاق في معمعة الأحداث، وتدرس قراراتها أمام المصلحة والأولويات بعناية، وتحافظ على مبدأ المرجعية في سياسة البلاد وثوابتها الدينية والوطنية والقانونية، وتدرس قراراتها في قمة الحالة الصحية من الوعي السياسي والشورى والتوافق النفسي داخل الاحزاب. 
وكلما كان القرار متزنا كانت المصالح متلائمة، ومستقبلها آمن.

2- اتزان الخطاب/
صياغة الموقف السياسي تواجه صعوبات كثيرة أمام ثورة العاطفة وأمواج الانفعالات في ظروف الاحتراب.. والأجدر أن يكون الموقف السياسي نابعا من الواقع بموضوعية، ويتم عرضه بخطاب متزن في لغته ومفرداته. ولا يخرج إلى الرأي العام ووسائل الإعلام إلا بمحتوى منطقي بعيدا عن مؤثرات العاطفة والانفعالات.. ويحتاج أن يكون المتحدث رسميا أو مشهورا في تمثيل الاتجاه السياسي.
ويبدو الاتزان السياسي مهما من خلال التفريق بين خطاب الدولة من خطاب الحزب، والخطاب السياسي من الخطاب العسكري، والرأي الرسمي من الرأي الشعبي.. والمناهض من الحليف.. 
فعدم استحضار المواقع السياسية يفقد المتحدث سياسة الاتزان.. ويجد نفسه أنه يتحدث من مواقع غيره.
ونلحظ أن خطورة الاتزان تكمن في البيانات السياسية بألوانها المتعددة، بمدى التزامها الخط السياسي، وتحاشيها من الولوج في معمعة الخط العسكري الساخن.. كي تمارس دورها في مساحتها السياسية المشروعة بعيدا عن الصدام المسلح.
3- اتزان المسؤولية/
المسؤولية الوطنية تسع الجميع، لكن هناك مسؤوليات متعددة لا ينبغي الخلط بينها في التعاطي السياسي، حيث لا يسوغ للسياسي أن يقدم نفسه إعلاميا يمارس مهنة التحقيق الصحفي، ولا يقدم نفسه رجلا عسكريا في الميدان.. ويظن أنه يتعاطى معها بروح وطنية..!
وقد يتصدر السياسي الواجهة الشعبية بصفة الرجل الذي يوقف الاحتراب أو يشعله! فيراهن ويضع الشروط ويطلب التفاوض ويرسم محاوره..! وهذا تحليق وهمي فوق مستوى المسؤولية.
هذه النقاط وغيرها تحتاج أن يدرسها فريق سياسي يتمتع بقدرة سياسية عالية، أكثر من المهارة الإدارية بمهامها وصلاحياتها التقليدية في بيئة تختلف عن بيئة الاضطرابات والحروب. لأن الأزمات تزيد من حجم الضغوط السياسية المتلاحقة، وتحتاج أن تستدعي يقظة الهيئات العليا، والنخب السياسية في مجالس الشورى.. وتكوين فريق سياسي يخفف من أعباء هذه الضغوط، ويساعد على بلورة السياسات الآنية في الوقت المناسب وبحجم الحضور السياسي في الواقع، وبقدر الحاجة المطلوب اتخاذها.
والاتزان السياسي بدوره وتجربته سيصنع اتزانا إعلاميا، ويساعد على امتصاص كثير من المشاكل والنتوءات، بل يضع الاتجاه السياسي أمام نقاط أمان في الحاضر والمستقبل. ويعيش مع كل التحولات بمرونة عالية.