لم أجدني متحمسًا من ذي قبل ولا منجذبًا للاحتفاء بذكرى الــ٢٦ من سبتمبر كتحمسي وانجذابي لها اليوم على بعد الشقة!
فقد كانت هذه الذكرى بالنسبة لي تمر مرور الكرام، لا أعرف إلا أنها ذكرى سنوية وعطلة رسمية، ولم أحضر لها مهرجانًا في حياتي قط؛ ربما لأني من أبناء جيل هذه الثورة الذين ولدوا فيها ولم يشهدوا ما قبلها من عهد الإمامة المظلم، ولم يعانوه واقعًا وإن سمعوا به، فلذا لم يكن لذكراها عندي أهمية بالغة كما هو الحال اليوم بعد تغير الحال؛ (وليس الخبر كالمعاينة).
وهناك أمر آخر كان يهوِّن من شأنها، وهو ما يتردد في النفس من وجود حرج شرعي في إقامتها، وجعلها في مصاف المماثلة للأعياد المشروعة، أو المشابة لأعياد الأعداء الممنوعة.
وبتغير الزمان والمكان وتبدل الحال تغيرت النظرة والاجتهاد، واختلف الشعور والرؤية، وشعرت أن الاحتفاء بهذا اليوم له معنى آخر؛ ومختلف تماما هذا الوقت!
إذ أصبح التعلق بهذه الذكرى عند اليمنيين يعني لهم الشيء الكثير والكبير؛ فالذكرى لم تعد مجرد ذكرى عابرة، بل أصبحت هي الأمل الذي يحدوهم للانفكاك والانعتاق من هذا العهد المظلم والوضع المؤلم الذي لأجله قامت ثورة الـ ٢٦ من سبتمبر .
ولئن كان الاحتفاء فيما مضى مفسدة من وجهة نظري ونظر الكثير من طلاب العلم، فقد صار الأمر بالنسبة لي مصلحة راجحة في وقت لم نعد نرى فيه إلا شعارات المآتم واللطميات، ورايات الطائفية والحسينيات، واحتفالات النصب والنهب والجبايات!
وحتى مع إبقاء الاحتفال بذكرى الثورة على أصل الـمفسدة، فإن فقه الموازنة الشرعية يقضي بارتكاب هذه المفسدة الصغرى لمزاحمة ومناهضة مفاسد كبرى أعظم منها. ومن شأن الاجتهاد والفتوى أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد؛ كما هو مقرر عند فقهاء الأصول والمقاصد الشرعية.
رويدك بعض الشر أهون من بعض.
وإذا كان الاحتفال بالأعياد الشيعية البدعية المحققة كبدعة عيد الولاية المزعوم يوم الغدير؛ ومأتم عاشوراء؛ وغيرها من البدع، يغيظ أهل السنة ويحزنهم؛ فإن الاحتفال بذكرى ٢٦ من سبتمبر، يغيض هؤلاء الإمامية المبتدعة ويحزنهم كذلك، بل ويزعجهم ويرهبهم كما تدل عليه تصرفاتهم تجاه المحتفلين بها تحت سيطرتهم، وهذا في حد ذاته يشفي صدور أهل السنة ويفرحهم.
وإغاظة الأعداء وأهل البدع أمر مشروع دلت على مشروعية أصل فعله قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، ووقائع كثيرة لا يتسع المقال لذكرها، ولعلي أفردها إن شاءالله في بحث مستقل.
ولهذا لو سُمِّيَ الـ ٢٦ من سبتمبر (يوم أهل السنة في اليمن)، لم تكن هذه التسمية بعيدة عن الصواب؛ ولا القول بها عند ذوي الحجى مما يعاب.
فلا بديل لنصر السنة، ووأد البدعة، ورفع الفتنة إلا باستعادة الثورة السبتمبرية التي خرج بها اليمن من الظلمات إلى النور.
ناهيك عن أن هذه المناسبات هي في أصلها، من أمور العادات المباحة ما لم يحتف بها أمر خارجي يجعلها في مصاف البدعة الشرعية، أو المحرمات الفسقية.
ومما يصيِّرها بدعة: أن يُقصد بها نية التقرب إلى الله تعالى، كبدعة المولد وغيره. أو يراد بها حقيقة المشابهة للكفار فيما هو من خصائص دينهم كعيد الكرسمس ويوم النيروز وغيرها من أعيادهم، ويضفى عليها شيء من القداسة والتعظيم، أو يصاحب الاحتفال بها شيء من الفسق الصريح، كالتبرج والرقص المختلط، والسكر، وغير ذلك من المحرمات، فعند ذلك تصير حراما؛ وهذا بحمد الله ما لا وجود له في احتفاء شعبنا اليمني بهذه الذكرى الغالية.
وما عدا ذلك من العادات فهي باقية على أصل الإباحة.
وهنا لا أنسى أن أذكِّر بعض إخواننا الأفاضل من المشايخ والدعاة الغيورين الذي قد يدفعهم الحماس، أو تستفزهم بعض الأخطاء، ويغيب عنهم فقه الحال وتجاهل الواقع، إلى المنع والمصادمة والنزوع دائما لاختيار القول الأشد في المسألة؛ كما لو كنا نتحدث في وقت الأمن والسعة إلى طلاب حلقاتنا؛ وليس لجمهور هائج ثائر!
ويتناسى هؤلاء الإخوة أن الشعب في حالة حرب واستنفار واحتقان وأنين من مشروع الإمامة الغازي الذي يسعى لوأد ثورته، وطمس هويته!
وما الحماس اليوم للاحتفال إلا أحد مظاهر التحدي والرفض لهذا المشروع الطائفي، وهو حق مشروع لاستعادة الحق المسلوب، ورفض الهيمنة السلالية، وتنفيس عن الحنق والكبت الذي تمارسه عليهم هذه المليشيات، تارة بالجبايات المرهقة، وأخرى بدعوى الولاية والحق الإلهي المزعوم!
وإنّ معالجة الأخطاء وترشيد السلوك وتصحيح المسار لا يكون أبدًا بالصرامة والمنع المطلق، والمصادمة والتحذير الفج؛ - فهذا شأن المحرمات القطيعة التي لا يتسامح فيها - وإنما طريق المعالجة للأخطاء التوجيه والنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، واختيار التي هي أحسن.
والقصد القصد تبلغوا. ورحم الله رجلًا أراهم اليوم من نفسه قوة. والله من وراء القصد.